الاثنين، يوليو ١٧، ٢٠٠٦

صبريه

صبريه سيدة مصريه أتت إلى الكويت للعمل في مدارس الكويت مضيفة بوفيه , في إدارة المدرسة تصنع الشاي والقهوة بكل أنواعها بدون تعب ولا ملل , لكي تساعد أخوتها في جمهورية مصر العربية , كما هو الحال لكل مغترب , تعرفت صبريه على سنيه المصرية زميلتها والتي تعمل معها في نفس المجال , وتشاركتا السكن والحياة كذلك , ولكن كان الراتب ضعيف , لا يفي بمتطلبات الحياة , وكانتا تحصلان على معونات من المحسنين من أهل الكويت , ومنهم أم صالح , امرأة كويتية التي كرست حياتها للعمل التطوعي و الخيري , وفجأة طلب صاحب السكن إخلاء السكن الحالي بعد ثلاثة شهور , حيث أنه ينوي هدم المبنى ، وأقامت مبني آخر

كأن وقع الخبر على الصديقتين كالرصاص . وخاصة أنهم بدون رجل يعيلهم , فلجئا لأم صالح

تذهب صبريه لأم صالح : ألحقيني يا حجه
أم صالح : إشفيك يا بنتي ، عسى ما شر !
صبريه : الراجل بتاع العماره عاوز يخرجنا من الملحق
أم صالح : ليش يبي زود ؟
صبريه : ياريت ! عاوز يهد العماره ويبني مكانها عماره جديدة
أم صالح : خرعتيني الله أهديك , شوفوا ملحق ثاني
صبريه : منين يا حجه ، و أنتي عارفه البير وغطاه
أم صالح : يا بنتي الدنيا لما الحين بخير , شوفي لك مكان ثاني ونكلم المحسنين ، والله يعينا
صبريه : بس أزاي ، وفين ؟
أم صالح تسحب ورقه وقلم : كتبي هذا العنوان أنا اليوم قاريته بالجريدة ، روحوا شوفوالملحق


وعلى الفور تسجل العنوان وتطلب سائق أم صالح يوصلهم للعنوان المكتوب بالورقة , العنوان كان في منطقة بيان , ومن المعروف لا يوجد بهذه المنطقة ملحق للإيجار ، حيث أنها منطقة سكنية بالسكن الخاص , وصلوا للعنوان و تقرع صبريه على الجرس ، وتنتظر إجابة من أهل البيت ، وكانت تعتريها الحيرة ، هل يكون الإيجار مناسب ، والأهم من كل هذا ، هل يقبلون بهم كسكان ؟ واضح من شكل البيت بأنه من البيوت الفاخرة , وبتلك اللحظة يخرج رجل مسن إجابة منه على رنين الجرس

الرجل : تفضلي
صبريه : والله إحنا جاين عشان نشوف الملحق
الرجل : أي ملحق !!!!!!!
صبريه : الملحق إلي معلنين عنه بالجريدة
الرجل بابتسامه : أنتي أكيد غلطانة , إحنا موحاطين ملحق للإيجار
صبريه بنبرة حزينة : يا ربي أرحمنا ، حنروح فين , متشكرة يا حج , وآسفين على الإزعاج
الرجل باستياء : إنا لله و إنا إليه لراجعون ، تفضلوا بالحديقة ، خلونا أنعالج الأمور

صبريه علي الفور وبدون تردد تطلب من سنيه الدخول للمنزل ، وتم شرح الظروف للرجل ، والرجل بدوره تفهم الموضوع وحاول تقديم المساعدة

الرجل : والله يا أختي أنا ما عندي مانع تسكنون عندي ، بس عندي شرط ، إذا قبلتي فيه ، البيت هذا كله ملكك
صبريه بفرح : ربنا يخليك يا حج ، بس شنو الشرط ؟
الرجل : أنا ريال متدين ، ولا أقدر أسكن حريم في بيتي ، الناس إشتبي تقول عني ، بس إلي أقدر أسويه ، أنك تقبلين تكونين زوجتي على سنه الله ورسوله ، وأنا ريال شايب ، ومحتاج رعايتك ، إذا عندك استعداد ، بعد ما تفكرين بالموضوع ، البيت مفتوح لك ولا تفكرين أني أستغل ظروفك
صبريه : والله يا حج مش عارف أقول حاجه , أنت فاجأتني بس حفكر

ويخرجون من المنزل والحيرة ترافقهم ، ويوصلهم السائق للملحق ، وتتصل صبريه بأم صالح ، وتسرد صبريه أحداث اليوم ، وتأخذ النصيحة من أم صالح ، أم صالح تنصحها بالتوكل على الله ، ترى مبين عليه خوش ريال ، ولا تطولين عليه بالتفكير ، و على الفور ترجع مصر بعد ما تتفق مع الرجل ، وتم مراسيم الخطبة ، رسمي من أخوتها ، وترجع مع الزوج ، والرجل عنده أربع أولاد ، ثلاثة منهم ملتزمين دينياَ و واحد معتدل ، عارضوا على الزواج في بداية الأمر ، وبعد إصرار الأب وافقوا ، و خاصة كل واحد منهم ساكن في بيت بمفرده ، والأب ساكن في البيت الكبير بدون أحد يسليه أو يتابع حالته الصحية , المهم تم الزواج السعيد ، وكان الرجل سعيد جدا بذلك الزواج , ملت عليه صبريه البيت ، وحس أن تلك المرآة البسيطة تبي بس رضاه ، و إن تربيتها تربية سليمة ، ولا هي من النوع الطماع ، و يبي يكتب لها شيء من أملاكه , وكانت دايم تطلب منه دعوة أبنائه وزوجاتهم والأحفاد ، على الأقل يوم بالأسبوع ، وفي تلك اللحظات صبريه جمعت الأسرة كل يوم جمعة علي الغداء ، وحس الرجل المسن أن الحياة دبت في البيت مرة أخرى ، بعد دخول صبريه تلك المرآة البسيطة ، وكل ما يمر يوم زاد حب تلك المرآة في قلب ذلك الرجل المسن




وبعد سنة ونصف من زواج صبريه ، يقع الرجل المسن طريح الفراش ، بمرض غير معروف ، وبعد الفحص تبين بأنه مصاب بسرطان بالمخ ، أفقده ذاكرته ، والعجيب كان لا يتذكر إلا أسم صبريه ، وكانت صبريه ملازمته طول الوقت ، ليل ونهار ، لدرجة أنها تنام تحت رجليه ، وعلى الأرض ، وعينها وفكرها دايم تراعيه ، وفكره توديها وفكره تيبها ، وكأنها تقول لا تخليني يا بو حمود ، أنا من غيرك أضيع ، وأنت الأمل الوحيد لي بهالدنيا ، أستغفر الله ،وغاب عن فكر صبريه بأن رحمة الله كبيرة .


وكانت العائلة ملتمه عليه ، حتى الأطفال ، كانوا دايم السؤال عن جدهم ، ذلك المسن المضياف المعطاء , والكل يشيد بموقف صبريه حتى الأقارب والأصدقاء ، حيث أن وقفتها مع بو حمود مشرفه , وكانت مثال للزوجة المحبة لزوجها ، وخاصة في زمن أنفقد ذلك الحب ، وصارت اهتمامات المرأة منصبه على طلعات وسفرات و واجباتها المنزلية تأديها بكسل ، مثل الطالب إلي ثاني يوم يدخل امتحان فيزياء ما عطا حقه من المذاكرة , ما أدري ليش أحس إن المرآة في مجتمعنا أصبحت اهتماماتها سخيفة ، ولا يعفى الرجل كذلك من نفس الموضوع ، الرجل بعيد عن البيت ، واهتماماته أنصبة على التجوال بالمجمعات التجارية ، وكأنه حارس للمجمع ، مع العلم بأنه له دور مهم في البيت، وأعتقد أنه جانب نفسي كذلك ، و وجوده بالبيت حتى و إن كان سلبي من غير ولا شيء ، يعطي إحساس بالأمان



حالة بو حمود أصبحت سيئة ، ودخل غرفة العناية المركزة ، وبدأ يحتضر برفقة صبريه ، وصبريه أذكره بالشهادة إلى أن وافته المنية، ومات في فجر يوم الجمعة ، وعلى صوت أذان الفجر , حزنت صبريه حزن شديد على زوجها , وذهبت إلى المنزل وتنتظر مراسيم الدفن ، وتتم إجراءات العدة الشرعية التي حددها لها الشرع ، وفي تلك الأحداث الأليمة والأجواء المتوترة ، يزورها الابن الأكبر في منزلها الكبير، الذي خلفه لها بو حمود ، وبدا مهجور، وماتت فيه الحياة ، والجو بداخله حزين و متوتر

حمود : صبريه ودي أسولف معاك أشويه ؟
صبريه بنبره حزينة : تفضل
حمود : أنتي تدرين ، سبب زواج الوالد منك
صبريه : بتقصد إيه ؟
حمود : أنتي بعد ما تخلصين من العدة لازم تتركين هذا البيت ، وأنتي مالك أي حق بالإرث ، أحنا زوجناك الوالد رحمت الله عليه ، شفقه منا عليه ، وعشان ما يسويلنا فضايح , وقلنا تخدمينه بالحلال
صبريه : أسكت يا حمود ما تتكملش , أنت إيه إلي عاوزه ؟
حمود : يعني نبيك أتنازلين عن حقك , وكلنا متفقين على هذا الشيء، وما نبي نسويلك مشاكل أنتي غنية عنها ، وما أبيك تزعلين من كلامي ، هذه الحقيقة
صبريه : لا وعلى إيه , أنا دخلت هذا البيت فقيرة وحخرج منه فقيرة ، أنا عمري مكنتش طمعانه بالحج , والدنيا بعد أبوك ما تسواش حاجه , وإيه إلي أنت عاوزه أنا راح أعملوهولك ، وبدون فضايح
حمود : عيل بعد العدة تيين معانا المحكمة ، وتتنازلين لنا عن حقك بالإرث ، وحنا ما راح أنقصر معاك ، راح أن حطلك ملحق في عماراتنا ، ببلاش و بدون إيجار ، وإن مشيلك معاش ، بعد شنو تبين ؟
صبريه : لا وعلى إيه ، ما تتعبش نفسك ، أنا راح أرجع مصر لأهلي
حمود : يكون أحسن ، شنو يقعدك أهني بروحك ؟ هناك أهلك موجودين ، ويديرون بالهم عليك

وبعد تلك المحادثات ، يخرج الابن الأكبر وعلامات الرضا مرسومه علي وجهه ، وتم تبليغ الأخوة بقرار صبريه وموافقتها علي طلباتهم ، ويتم تجهيز الإجراءات من قبل الأولاد ، ويذهبون إلى قصر العدل ، ويتوجهون إلى الدور الثالث إدارة الأحوال الشخصية ( قسم توزيع التركات وحصر الإرث) ، وفي تلك اللحظة تقع عين الابن الأصغر على صبريه ، كان يبدوعليها كل علامات الحزن ، وبعد خروجهم من المصعد وبخطوات سريعة ، وصبريه خطواتها بطيئة بضع الشيء ، يسرق الابن الأصغر المسافة بينه وبين صبريه، وكان الأخ الأكبر الأقرب له على جانبه اليمين، ويفجر الموضوع !!
سالم : يا جماعه ، ترى إلي سويناه حرام ، وأنا أبري ذمتي ، هذي مرت أبونا ، الناس شنو تبي تقول عنا ؟!
حمود : سبحان الله !! توني كنت أفكر بنفس الموضوع ، والله عدل كلامك يا سالم ، خذتنا الدنيا
الأخ الثاني فيصل : عسى الله يغفر لنا يا جماعه
الأخ الثالث عبد الله : إحنا راح نخليها مفاجأة ، وندخل داخل ، وكأنه ما قلنا لها شيء ، ونفرحه قلبها هالمسكينه ، ترى الخير وايد

يدخلون القاعة ، ويطلب حمود من صبريه ، بأن لا تنطق بكلمه , دمعت عيناها من قساوة الأولاد ، وكيف يكونوا من صلب ذلك الرجل الطيب ، وذكرها حمود ، أي شيء نقولك ، تقولين موافقة، ولم ترد بأي كلمه تلك المسكينة

يدخلون علي القاضي ، ويقدمون الأوراق الرسمية ، ويتم تقسيم الحصص ، ويقول لها حمود ، ترى لك بيت الوالد وعماره دخلها الشهري ثلاثة آلاف دينار، وإن شاء الله راح نضبط لك البيت ونرممه ، والعمارة راح أنديرها لك ، بس ما نبي ننقطع من جمعه يوم الجمعة ، وعندها ردت صبريه ، بس أنا عاوزه أتنازل ، وأغلق الموضوع بسرعة ، وأدخل البهجة في صدر صبريه، وعلي الفور قاموا بأجراء استخراج الجنسية الكويتية لها ، حيث أن لهم علاقات في كل أجهزة الدولة ، وقدموا الاعتذار لها بعد خروجهم من قصر العدل , يا سبحان الله ، صحيح رحمت رب العالمين واسعة !!!

وعاشت صبريه ، مع أولاد ذلك الرجل الذي ضمها إلى صدره الحنون ، واستمرت العادة التي كانت من بحر أفكارها ، وكل جمعة كما جرت العادة على حيات بو حمود ، واستمر التجمع بعد وفاته .


صبريه في تلك اللحظات شكرت رب العالمين ، وزاد إيمانها بالله عز وجل ، وبدأت تتصدق على الفقراء والمساكين ، وتدفع الزكاة والصدقات لنفس المرأة التي كانت تعطيها من عطايا رب العالمين



تمت